اتفاقية غزة أريحا (أوسلو 1)، 4 أيار 1994، القاهرة
Map Details
شكل اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل وقبولها بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 في الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في الجزائر (من 12 – 15 تشرين الثاني 1988) سكوتها عن "الحقوق" بحوالي 78% من فلسطين التاريخية (قبل عام 1967 لإسرائيل). ومع أواخر 1992، أي بعد مضي عام على انعقاد مؤتمر مدريد، كان ضعف التقدم في المحادثات الثنائية يثير الشكوك حول الحكمة من وراء هذا "السكوت" وأصبح يهدد بتقويض مصداقية منظمة التحرير الفلسطينية. ومع وصول المسار التفاوضي الأولي والرسمي في واشنطن (الذي استمر منذ مؤتمر مدريد) إلى طريق مسدود، ومع تبني إدارة كلينتون الجديدة لموقف مؤيد لإسرائيل فإن المباحثات/ المفوضات في مدريد دخلت عام 1993 نفقاً مظلماً وكثيراً من الشكوك وقدر ضئيل من الآمال المعقودة عليها.
إلا أن حراكاً آخر قد بدأ في المباحثات السرية غير الرسمية التي عقدت في أوسلو في النرويج بين أكاديميين إسرائيليين وممثلين عن منظمة التحرير الفلسطينية، وكان الفلسطينيون هم؛ أحمد قريع (أبو علاء)، وحسن عصفور وماهر الكرد. ومع مراوحة المسار التفاوضي الرسمي مكانه، أضفى رئيس الوزراء الإسرائيلي، اسحق رابين طابعاً رسمياً على قناة أوسلو السرية في أيار 1993. وقد سعى الفريقان إلى إحداث تحسينات في إطار الحكم الذاتي الذي كان قد طرح في كامب ديفيد (المصرية/ الإسرائيلية) عام 1979؛ وذلك بما يتماشى مع طبيعة تقييم كل فريق للخطة. وقد توصل بعد ستة شهور من الجدال رسائل اعتراف متبادل بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين، تلاها توقيع اتفاق إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي المرحلية في أيلول 1993.
رغم التأييد العام الغربي الذي واكب هذا "الحدث"، والذي توج بمصافحة "تاريخية" بين ياسر عرفات واسحق رابين في البيت الأبيض بتاريخ 13 أيلول 1993، إلا أن اتفاق إعلان المبادئ كان وثيقة مبهمة. وبالإضافة إلى الابتعاد الواضح عن القضايا الأساسية الصعبة (المستوطنات، واللاجئين، والقدس، والحدود، والمصادر الطبيعية)، أولت الاتفاقية اهتماماً حصرياً بالمطالب "الأمنية" الإسرائيلية و"التعاون" الاقتصادي المقترح. مع ذلك، نصت اتفاقية إعلان المبادئ على فترة انتقالية مدتها خمس سنوات يتم الانتقال بعدها إلى مفاوضات الوضع النهائي وإنهاء الصراع. لكن طبيعة هذا الوضع النهائي لم تكن محددة، ودون أية إشارة أو ذكر للدولة الفلسطينية المستقلة.
تم التفاوض على تطبيق اتفاق إعلان المبادئ في مناخ سياسي يختلف كلياً عن الحالة التي جرت فيها مباحثات أوسلو، حيث استبدلت إسرائيل غالبية مسئولي وزارة الخارجية بفريق من الاستراتيجيين العسكريين، وشرعت تدريجياً في اقتطاع أجزاء من الانسحابات الأولية التي تم بحثها في أوسلو. من ناحية أخرى، اتسع مفهوم "غزة أولاً"، الذي يعود إلى حقبة ما قبل أوسلو، تحت إصرار من منظمة التحرير الفلسطينية للحصول على "موطئ قدم" كسلطة للفلسطينيين في الضفة الغربية؛ وبذلك أصبح هذا المفهوم يعرف باسم خطة "غزة – أريحا". إلا أن غموض وثيقة أوسلو ترك للإسرائيليين متسعاً كافياً لفرض قيود حتى على هذا، بينما أدت حاجة منظمة التحرير الفلسطينية لتجاوز النقد الذي تعرضت له اتفاقية إعلان المبادئ من خلال إظهار وجود لها على أرض فلسطينية "محررة" إلى تجريد الفلسطينيين من أية قوة "للصمود" في وجه القيود الإسرائيلية. في أثناء ذلك، كان راعيي اتفاقية إعلان المبادئ في حالة صمت بشكل ملفت للنظر، وامتنعا عن أي تدخل رفيع المستوي خلال المراحل الأولى الحاسمة من عملية السلام، حيث تركا لإسرائيل حرية تامة للتحرك كيفما تشاء. في 4 أيار 1994، وقع اسحق رابين وياسر عرفات في القاهرة اتفاقية غزة – أريحا (أو أوسلو 1). وعبرت أول قوة شرطة فلسطينية الحدود الأردنية في 12 أيار 1994 لتتمركز في مدينة أريحا. وفي 1 تموز 1994، عاد ياسر عرفات إلى فلسطين بعد حوالي 30 سنة من العيش في المنفى، وسط احتفالات شعبية عارمة في مختلف أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث وصل إلى غزة لتولي رئاسة السلطة الفلسطينية الناشئة.
كمرحلة أولى، لم تقدم اتفاقية غزة – أريحا الكثير من الأمل فيما يتعلق بقيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف، وجوبهت بانتقادات من مختلف أطياف الحركة السياسية الفلسطينية. الإسرائيليون، من جانبهم، حدوا كثيراً من انسحاباتهم من قطاع غزة. وبينما كانوا يعيدون انتشار قواتهم خارج المراكز السكانية، فإنهم أبقوا على جميع المستوطنات والطرق التي تربط بعضها ببعض جنباً إلى جنب مع "حزام أمني" واسع. وبشكل عام، يمكن القول بأن "الانسحاب" من قطاع غزة قد شهد وشرّع – بموجب الاتفاقية – الوجود الإسرائيلي في حوالي 40% من مساحة قطاع غزة. أما في أريحا، فقد شرعت إسرائيل في شق طرق التفافية لربط المستوطنات المحيطة بالمدينة ببعضها، واحتفظت بالسيطرة على حدود المدينة لضمان بقاء الجيب الصغير الخاضع لسيطرة السلطة الفلسطينية معزولاً عن المواقع الفلسطينية الأخرى، ودون أي إمكانية للوصول إلى المعبر الحدودي مع الأردن. وما تمخض عن عمليتي إعادة الانتشار لم يخرج عن كونه قد جعل السيطرة الفلسطينية تقتصر على تجمعات سكانية غير متطورة وبائسة، ومحرومة من أية إمكانية لاستغلال المصادر الأساسية أو أية سيادة على مناطق متصلة جغرافياً. كما أنه لم يتم تطبيق أحد بنود الاتفاقية الخاص بما كان يعرف باسم "المعبر أو الممر الآمن" بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
كانت مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني خاصة العاملة في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية قلقة من "التنازلات" التي قدمتها منظمة التحرير الفلسطينية باسم الحفاظ على "الأمن" الإسرائيلي، حيث رأت فيها إشارة على إقامة نظام استبدادي. وفي الحقيقة، فإن الاتفاقية تضمنت بنداً يقضي باستمرار سريان 930 من بين 1.000 أمر عسكري إسرائيلي، صدرت في قطاع غزة منذ عام 1967، طيلة المرحلة الانتقالية. كما بقيت السلطات والصلاحيات الخاصة بالمياه، والسيطرة على الأراضي، والتنظيم والتطوير خاضعة للفيتو الإسرائيلي، في الوقت الذي حافظ فيه ميزان التكامل الاقتصادي على السيطرة لصالح إسرائيل. لكن، وبينما كان النقد اللاذع ينصب على اتفاقية أوسلو 1 المثيرة للجدل – حتى داخل إسرائيل – إلا أنها مكنت من "خروج" أكثر من مليون فلسطيني من الإدارة المباشرة لقبضة الاحتلال الإسرائيلي بعد حوالي 27 سنة عليها .